أشعر و كأنني صرتُ أكثر نضجًا و حكمةً و إدراكًا للأمور التي حولي بعدما انتهيت أعوامي الدراسية، أو بتعبيرٍ أدق لما كُسر القيد المسمى بالدراسة!،
أجل أنا لستُ على إدراكٍ تامٍ بعد بما سأفعل بعد تسليمي لمشروع التخرج -على خيرٍ بإذن الله- كاتجاه عملي أو علمي، لكن ثمة نقاط أصبحتُ أدركها جيّدًا إلى الحد الذي جعلني أكتُب هذه الكلمات حتى لا أنساها أبدًا،
بعدَ خمسة أعوامٍ كاملة توصلتُ إلى أنّ قيمةُ المرء في خمسٍ:
:أولها: قيمة المرء دينه و خُلقه:
الدين و الخُلق بوصلة الإنسان للمضي في حياته، لمواجهة قوى الظلام بداخله و سحبه إلى النور و الخير فلا يُؤذي أحدًا و لا يتأذى هو من أحد.
و الأهم: الدرع الأقوى أمام “العادي و الذي سيصبح عادي و الذي ستقول عنه:مستحيل يبقى عادي، و الذي تقول عنه: دي حاجة بسيطة يعني عادي”و هي الكارثة التي ابتلينا بها، و لم نستطع الخروج منها أنقياء طاهرين للأسف، و كان الجهاد فيها غاية الصعوبة!،
و قناعتي التي توصلت إليها بعد خمسة أعوام، هي شيئان:
أولهما: أي مكان سيكتب لك الإكمال فيه حياتك، ثم سيمس دينك و خلقك أهنّه بالاستغناء و التخلي، و إن لم تستطع أن تفعل: فإياك إياك و الخطأ الأول”اللي أنت غالبا بعدها هتقول مش هعمل كدا تاني، ابقى قابلني🚶🏻♀️“، و احذر هؤلاء الجراثيم القاتلة التي ستهون الأخطاء و تحقرّها كأنّك تفتح علبة حلوى لا ترتكب خطًأ و إثمًا.
احفظ قلبكَ حيًّا..!
.
ثانيها: قيمة المرء ما يُحسنه:
أجل، للأسف في الخمسة أعوام ربما لأنّ الواحد منا كان يفتقر و يفتقد إدراكه إلى ماذا يُريد و ماذا لا يُريد، و إلى النضج الكافي لفهم أعماق الأمور حوله، مشى وراء التيارات التي صفعته صفعة جعلته ينزلق و ينجرف مع هذا التيار شاء أم أبى، تيارات عديمة الرحمة و الإنسانية؛ أرادت أن تصنع منكَ قالبًا لأفكارها و مشاعرها إرضاءً لغرورها الفكري و الشعوري، مناديةً بالمثالية الخرقاء الجوفاء التي هي أصلا ليست موجودة على الأرض،
لكن للأسف لضعفنا، و اهتزازنا الدائم، و عدم ثقتنا بأنفسنا، دُفنّا في وحلها.
.فلا نحنُ خرجنا بشيء تعلمناه أو استفدناه، ولا نحن عرفنا قدراتنا و مواهبنا التي وهبها الله لنا فأحسنّا لها بالعمل و الاجتهاد.
بعدَ خمسة أعوام:
لكل واحد منّا هبة خصّه الله بها، صغيرة أو كبيرة. مختلفون نحن لنتكامل، لا لنختلف و نتنافس، لننجح معًا، لا لنكسر كل من لا يشبهنا، ولا لنحقر من ليس مثلنا،
لنعمل معًا، لا لنصنع قوالب توافق أهواءنا الآثمة المغرورة،
إثم الهوى ليس فقط في اتباعه، بل وفي تسليطه على الآخرين و جعلهم تابعين له رغمًا عنهم، لاغيًّا اختلافهم و قدراتهم!.
تقبلوا ذلك، يا كل من سنلتقي بهم في أيامنا القادمة تقبّلوا أننا لسنا واحد، أننا نختلف عنكم، و أنكم تختلفوا عنا، لكل منا قلبه و عقله، فاتركونا نحسن لما نحب، نحسن لما نعرف، نحسن لما نفهم، نحسن لما يريده قلبنا و عقلنا لا قلبكم و عقلكم، اتركونا نحسن لأننا قيمتنا فقط فيما نُحسن، لا في اتباعنا لتياركم!.
آمن بهبة الله لك، لا تُحقرها مهما كانت صغيرة، أحسن إليها بالعمل و الاجتهاد و الصبر و الاستعانة بالله و الاستخارة الدائمة، عسى الله يفتح لك طريقًا لم تكن تتخيله،
ثم ثق بنفسك ولا تنجرف إلا لما يؤمن به قلبك و عقلك وفقط!
ثم في النهاية:
علّمها لغيرك، تتم مهمتك و شكرك لله على نعمته.
.
ثالثها: قيمة المرء فهمه الصحيح ل:
“رحم الله امرئ عرف قدر نفسه”.
كان منهم إذا دخلوا علينا قاعة المحاضرات، بدؤوا بعزف موسيقاهم الخاصة و الغناء أنّهم يفقهون كل شيء، و يعرفون كل شيء، و نحن لسنا سوى مجموعة حمقى جئنا لنتعلم فعلينا أن ننصت و أن نستمع و فقط، لأنهم عرفين كل حاجة.
رحم الله امرئ أدرك أنّ الله خلقه معززًا مكرمًا فليس من حق أحدٍ أيًّا كان أن يقلل من شأنه لأي سبب كان،
و رحم الله امرئ أدرك أنه مخلوقٌ ضعيف، مهما بلغ فهو ضعيف، فليتواضع!
رحم الله امرئ عرف قدر نفسه!
.
رابعها: قيمة المرء بمدى إنسانيته و حبه للخير.
في عالمٍ مادي حقير لا يهم الناس إلّا أنفسهم، زُرع بداخلنا-من اتجاهات مختلفة نتيجة البيئات التي عشنا فيها-أنّه نفسك أولا وفقط!
ولو أننا آوينا لظل سماءٍ أمام بحرٍ اختارت الشمس أن تختبئ في حضنه، و تأملنا سبب خلقنا، ثم استذكرنا بعض الآيات و الأحاديث التي كننا نرددها فرحًا و نحن أطفالا نركض وراء بعضنا البعض أيّنا حفظها أفضل، لاشمئزينا من أنفسنا ومن أفكارنا و من أفعالنا،
قال -صلى الله عليه وسلم-:
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشده بعضه بعضا.
قال -صلى الله عليه وسلم-:
مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحُمى.
صدق رسول الله!
.
احذر الوقوع في فخ الأنانية، احذر الوقوع في فخ اللإنسانية، و حسب ما رأيت في الخمسة أعوام أنّ أول ما يكسر هذا شيئان:
أنّك إذا تعلمتَ شيئًا علّمه لغيرك مباشرةً،
و أنّه إذا أتاك أحد يطلب المساعدة فقدّم فورًا، فإن لم تستطع فدلّه على من يقدر،
ثم عود وجهك على البشاشة و الابتسامة في وجه من يأتيك سائلا، و علّم قلبك أن يكون خفيفًا لطيفا فلا يُشعر السائل بأنه ثقيل أو ما شابه،
ثم أخلص نيتك لله وحده، واعلم أنّ ما تقدمه واجبٌ منك لشكر الله على نعمه، لا كرمًا و تفضلا منك، فتواضع و أحسن!
.
خامسًا و الأخيرة: قيمة المرء في ابتعاده عن القيل و القال، و إنشغاله بما لا يعنيه.
إذا أردت أن تحيا سليم الصدر نبيل الطبع كريم القلب فلا تجلس مع امرئ لا يكف عن ذكر الآخرين بسوء، عن امرئ لا يحسن الظن و يملأ قلبك بالسواد اتجاه الآخرين، لا يكف عن الحديث عن سر هذا و ذاك،
ينشغل بكل صغيرة و كبيرة ناسيًّا نفسه.
لا شيء يُسّود القلب و يملأ العقل بالصدأ مثل: “الحكاوي و الحواديت”،
اشغل نفسك بما ينفعك،
ف “من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه”.
.
أمّا بعد،
كنّا ربما بحاجة إلى مدرسة الخمسة أعوام لنصل إلى هذه القناعات،
شكرًا لكل اللحظات و المواقف و الأحداث التي جعلتني أصل لهذه السطور بقناعة كاملة تامة،
شكرًا لمن ظلمنا و آذنا و كسرنا،
شكرًا لمن أحسن إلينا و رفق بنا و أكرمنا،
نذكر كلاكما بالدعاء، بالمغفرة و أن ننسى، أو الرزق بكرم الله و إحسانه و عدم النسيان.
كلاكما كان سببًا في حروف كثيرة بين هذه السطور.
شكرًا لكل ما مضى، لأنّ نصل إلى هذا القدر من الحرية في القلب و العقل، لم أكن أتخيل أنّ إنكسار قيد الدراسة سيكون بكل هذا القدر من الجمال و السعادة، فالحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
.
ربما تتساءلون كيف مرت هذه الأعوام؟
أنا أيضًّا تساءلت، ثم اخترت أن أفكر و استذكر الأيام لأذكر لأي شيء كان الغلبة لأن نمضي و نصبر، فقررت أن أفتح تويتر و أفكر و أنا أقلب في تغريداته، فكانت أول تغريدة، هي الإجابة، رفق الله بنا و ذكّرنا ما نسينا )
نعم هذه الآيات بها مضت أعوامي السابقة:
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى..
نعم، في أشد لحظاتي انكسارا و حزنًا و يأسًا لم يكن أحد بجواري إلّا الله،
الله وحده الذي مرّ هذه الأعوام على خير،
لا فضل و لا كرم إلا لله وحده،
أبوء لك بنعمتك علي ياربي
و أبوء لك بذنبي فاغفر لي،
فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا إنت،
فإنّه لا كريم إلّا أنت،
فإنّه لا رحيم إلّا أنت،
أما بعد،
نسأل الله الخير و السعادة في كل ما هو قادم،
و السلام..